إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شرك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله:
اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حصن الإسلام المنيع، يحجز عن الأمة الفتن وشرور المعاصي، ويحمي أهل الإسلام من نزغات الشيطان ونزغات الهوى، وهو البناء المتين الذي تتماسك به عرى الدين، يحفظ العقائد والسلوك والأخلاق، ويدرأ المحن والرذائل، أوجبه الله على عموم الرجال والنساء، في القيام به صلاح الأمم، وحفظ النعم، ووفرة الأمن، وإجابة الدعاء، وصرف كيد الأعداء، مع رفعة الدرجات والإحسان إلى الخلق.
قيل لابن مسعود: من ميت الأحياء. قال: (الذي لا ينكر منكرا).
عباد الله:
إن الذنوب والآثام آفات متلازمة، بعضها يأخذ برقاب بعض، ولا يفتها سوى الأمر والنهي، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (من لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر سلط الله عليه من يأمره وينهاه بما يضاد الشريعة).
عباد الله:
إن أقواما توهموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدح في الحريات الشخصية، وهذا من الجهل في فهم نصوص الشريعة، بل هو حفظ لحقوق الآخرين من انتهاكها، فاحذر الازدراء بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أو التنقص من قدرهم أو أذيتهم بالفعال أو المقال، فهم حراس الدين صوان الأعراض، بهم بإذن الله تعلو رتب الفضائل، وتوصد الفتن، ويُدفع البلاء.
عباد الله:
إن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من العلامات الدالة والمؤكدة على خيرية الأمة، كما قال تعالى: -(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)- [آل عمران/110].
قال القرطبي رحمه الله في هذه الآية: (مدح لهذه الأمة ما أقاموا ذلك واتصفوا به فإذا تركوا التغير وتواطؤا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذنب وكان ذلك سببا لهلاكهم).
إن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثمارا كثيرة ومنافع عظيمة من ذلك التمكين في الأرض قال تعالى: -(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)- [الحج/41].
ومن ذلك أنه علامة واضحة على فلاح الأمة قال تعالى: -(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)- [آل عمران/104].
ومن ذلك أنه علامة على صلاح القائمين به قال تعالى: -(يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ)- [آل عمران/114].
ومن ذلك أن القيام به من صفات المؤمنين المتكاتفين الموعودين بالرحمة قال تعالى: -(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)- [التوبة/71].
وقال تعالى: -(التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)- [التوبة/112].
ومن فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه من أعمال الأنبياء قال تعالى: -(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ)- [الأعراف/157].
عباد الله:
إن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإهمال شأنهما نذير شر وبلاء وفرقة وتناحر بين أفراد الأمة قال تعالى: -(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ*كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)- [المائدة/78-79].
قال ابن كثير رحمه الله: (يخبر الله تبارك وتعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل، فيما أنزله على داود وعيسى عليهما الصلاة والسلام، بسبب عصيانهم لله واعتدائهم على خلقه).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعنوا في التوراة والإنجيل وفي الزبور وفي الفرقان ثم بين ذلك في قوله تعالى: -(كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)- [المائدة/79].
أي كان لا ينهى أحد منهم أحدا عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليُحذِّر أن يُرتكب مثل الذي ارتكبوه، فقال: -(لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)- [المائدة/79].
وعن جرير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعمله لم يغيروه الا عمهم الله بعقاب»( ).
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.
فكل من شاهد منكرا ولم ينكره فهو شريك فيه، فالمستمع شريك المغتاب، ويجري هذا في جميع المعاصي،.
عباد الله:
وكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم، يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم، فينبغي أن يقوم عنهم، قال تعالى (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ)- [النساء/140].
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله، أنه أخذ قوما يشربون الخمر، فقيل له عن أحد الحاضرين، إنه صائم، فحمل عليه الأدب وقرأ هذه الآية: -( إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ)- [النساء/140]
أي أن الرضا بالمعصية معصية، ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضي بعقوبة العاصي حتى يهلكوا بأجمعهم، وبكل حال فليتق الله من يجالس أهل المنكر زاعما أنه منكر عليهم بقلبه، فإنه مع تلبسه بالإثم يُخشى عليه من أن ينجر معهم حتى يكون مشاركا لهم بقوله وفعله، ويتعلل بعض الناس ويعذرون أنفسهم في عدم إنكار المنكر، بالاحتجاج بقوله: -(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)- [المائدة/105].
والمعنى الصحيح لهذه الآية ما خرجه أصحاب السنن، عن قيس بن أبي حازم قال صعد أبو بكر رضي الله عنه منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: -(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)- [المائدة/105].
وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقابه»( ).
وفي رواية أخرى عند ابن جرير أن أبا بكر رضي الله عنه أيها الناس إنكم لتتلون أية من كتاب الله وتعدونها رخصة والله ما أنزل الله في كتابة أشد منها: -(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)- [المائدة/105].
وعن حذيفة رضي الله عنه في قوله: -(عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)- [المائدة/105]، قال رضي الله عنه: (إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر).
وعن سعيد بن المسيب رحمه الله في هذه الآية قال: (إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر, لا يضرك من ضل إذا اهتديت).
اللهم اجعلنا ممَّن يغضب لغضبك ويرضى لرضاك، اللهم اجعلنا مِن مَن يغضب لغضبك ويرضى لرضاك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد عباد الله:
اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصول الشريعة، وقاعدة من قواعد الأمن في المجتمع، ولو طوي بساطه وأهمل عمله لاضمحلت الديانة، وفشت الضلالة وشاعت الجهالة، وخربت البلاد وعم الفساد، واستعجلوا بالعذاب
إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك، أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، والمجتمع الذي لا ينهى عن المنكر معرض للعنة الله ومقته، وما ينشأ عنها من الذل والخذلان وتنوع الفتن.
قال عز وجل: -(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ*كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)- [المائدة/78-79].
عباد الله:
إن إعانة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر من أسباب فلاح المجتمع وتكاتف أهله، وفي ترك ذلك تفكك في الروابط وتنافر بين القلوب.
عباد الله:
وهنا مزلق زل فيه عدد من الناس، وهو الكلام في أهل الحسبة من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وإكثار التشنع عليهم، فبعض من الناس يجعل الحديث فيهم فاكهة مجالسه، يتشفى بنقدهم، بل ويلتمس كل لوم ليحمله عليهم، وفي المقابل لا يقبل في الاعتذار عنهم، ولمثل هذا ولأمثاله يقال: ألا تتق الله في نفسك ألم تعلم أن الغيبة حرام وتزداد حرمتها إذا تشفى الإنسان بذكرها ويزيد إثمها وجرمها إذا كان الضرر المترتب عليها متعديا.
إن هؤلاء يقعون في الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بالألسن والأقلام يُعددون مآخذ النقد، كل ذلك مصحوب بلباس الحقد والشماتة، فيا عجبا أليس الموظف يخطئ في بعض عمله، والتاجر يخطئ في بيعه وشراءه، أليس المدرس يخطئ في مدرسته، بل أليس الطبيب معرض للخطأ في عمله فقد يزيد المريض سريانا وقد يتسبب في وفاة المريض، إن تضخيم خطأ المحتسبين نوع من الحقد والجرم في حقهم، وذنب عظيم ممن أطلق لسانه وقلمه في آحادهم أو جماعاتهم، أوجَهازهم نسأل الله تعالى أن يحفظ بلادنا من شر الأشرار وكيد الفجار.
اللهم وفق المحتسبين لأداء عملهم على الوجه الذي يرضيك عنهم، اللهم قوى شوكتهم وزد في هيبتهم وسددهم في أقوالهم وأفعالهم، واجعل كيد أعدائهم في نحورهم.
عباد الله:
-(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)- [الأحزاب/56].
وأكثروا عليه من الصلاة يعظم لكم ربكم بها أجرا، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى عَلَىَّ صَلاَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا»( ).