اتق الله يا هاجر
الحمد لله الكريم الجواد ، اللطيف بالعباد ، المتفرد بالخلق والإيجاد ، اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، شهادة أرجوا بها النجاة يوم يحكم الله بين العباد ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه إلى يوم التناد .
أما بعد ، عباد الله :
اتقوا الله ، القائل : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
أتحدث إليكم في هذه الجمعة المباركة عن آفة وعن كبيرة عظيمة ، ألا وهي: البغضاء بين المؤمنين ، والتدابر والتهاجر ، وغيرها من الأخلاق المولّدة للشحناء ، والمسبّبة للتنافر .
اسمعوا لهذا الحديث ـ أيها الأخوة ـ في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : (( تعرض الأعمال في كل اثنين وخميس ، فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا ، إلا امرءا كانت بينه وبين أخيه شحناء ، فيقول : أتركوا هذين حتى يصطلحا )) . فبسبب الشحناء تؤخر المغفرة ، (( يقول : أتركوا هذين حتى يصطلحا )) .
الله ـ أيها الأخوة ـ يحب أن يكون الناس أخوة ليس بينهم شحناء ، ليس بينهم كره لبعضهم ، ولذلك جعل الهجر من الأمور المحرمة ، في الحديث المتفق عليه ، يقول : (( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال ، يلتقيان ، فيعرض هذا ، ويعرض هذا ، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام )) اسأل الله أن يعيننا على أنفسنا ، وأن يعيذنا من الشيطان .
أيها الأخوة المؤمنون :
بعض الناس ، إلى يومنا هذا ، وهو مازال هاجرا لبعض إخوانه من المسلمين ، أو لبعض أقاربه ، أو لبعض جيرانه فلم يزل حتى الآن على هذه الكبيرة العظيمة ، التي لا يحبها إلا الشيطان ، والتي هي أمنية من أمنياته ، وعمل من أعماله ، كما في الحديث عن جابر قال : سمعت رسول الله يقول : (( إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم )) . والهجر نتيجة من نتائج التحريش ، وهو سبب من أسباب دخول النار ـ والعياذ بالله ـ يقول الرسول : (( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ، فمن هجر فوق ثلاث ، فمات دخل النار )) .
والهجر ـ أيها الأخوة ـ وسيلة من وسائل الوقوع في الأثم ، فعن أبي هريرة ، أن الرسول قال : (( لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنا فوق ثلاث ، فإن مرت به ثلاث ، فَلْيَلْقَهُ ، فليسلم عليه ، فإن رد عليه السلام ، فقد اشتركا في الأجر ، وإن لم يرد عليه ، فقد باء بالإثم ، وخرج المسلم من الهِجْرةِ )) والحديث رواه أبو داود أيها الأخوة المؤمنون :
لقد أبعد بعض الناس عن هذا الدين ، وإن انتسب إليه ، وأعرض عنه وإن تسمى به ، وعلى سبيل المثال ، هذه الكبيرة العظيمة ، التي فيها مخالفة واضحة وصريحة لأمر الله ، يتجرأ عليها بعضهم ، كما ذكرت من غير مبالاة ، ء ألى هذا الحد ، صار بعض المسلمين ، ألعوبة في يد الشيطان ؛ كيف يسمع المسلم ، بأدلة واضحة ويخالفها ؛ ألا يخاف الله ! ألا يخشى أن تحل به عقوبة من الله !
إن هذه الظاهرة السيئة ، القبيحة ، لا يتصف بها إلا ضعاف الإيمان ، الذين سيطرت الدنيا على نفوسهم ، وغلبهم الهوى ، واستحوذ عليهم الشيطان .
نعم ـ أيها الأخوة ـ أهل الإيمان ، يعملون على رضا ربهم ، ويجاهدون أنفسهم ، حتى تخضع لأمر الله .
أهل الإيمان يقتدون بنبيهم ، الذي كان مثالا في هذا الجانب العظيم .
تأملوا ـ أيها الأخوة ـ ماذا كان يقول لمشركي قريش ، الذين آذوه في مكة ، وحصروه في الشعب ، ووضعوا سلى الجزور على ظهره ، وحاولوا تشويه سمعته ، فقالوا إنه ساحر ، وقالوا إنه مجنون ، وآذوا أحب الناس إلى نفسه ، أصحابه رضي الله عنهم ، ومع هذا يقول : (( اللهم اغفر لقومي ، فإنهم لا يعلمون )) . يطلب من الله أن يمهل لهم ، وأن لا يعجل في عقوبتهم ، فعلوا به الأفاعيل ومع ذلك يدعو لهم بهذا الدعاء ، الذي تضمن أربع مقامات من مقامات الإحسان كما قال أهل العلم : الأول أنه عفا عنهم ، والثاني أنه استغفر لهم ، والثالث أنه اعتذر لهم فقال : لا يعلمون ، والرابع أنه قال قومي ، فنسبهم إلى نفسه
بل حتى إخوان القردة والخنازير ، حينما كانوا في المدينة ، لم يجد منهم إلا الغدر والخيانة ، ومع ذلك يأمره الله بقوله : وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فيصبر ، ويعفوا عنهم ويصفح ، حتى جاء أمر الله بإجلائهم ، ومعاقبة ناقضي العهد منهم .
فما أحوجنا ـ أيها الأخوة ـ أن نعفوا ـ لا أقول عن المشركين ، ولا عن إخوان القردة والخنازير ، إنما عن إخواننا المسلمين ، عن أقاربنا ، عن أرحامنا .
ما أحوجنا ـ والله ـ إلى الإقتداء بنبينا !!!!!!
دخل مكة فاتحا ، فلما دخل البيت الحرام ، وجد الذين آذوه ، وجد الذين قتلوا أصحابه ، وجد الذين أخرجوه من مكة ، وجد قريشا ، وقد طأطئوا رؤوسهم ينتظرون حكمه ؛ قال ـ صلوات ربي وسلامه عليه : (( يا معشر قريش ! ما تظنون أني فاعل بكم ؟ )) فأخذوا يفكرون ، ويتذكرون ، فلم يذكروا إلا سواد وجوههم . فقالوا : أخ كريم وابن أخ كريم . قال : (( أذهبوا فأنتم الطلقاء )) . فالله .. الله . يا من فاتته هذه الفرصة العظيمة ، بادر إلى إرغام شيطانك ، وسارع إلى إرضاء ربك ، واصطلح مع إخوانك ، لعل الله أن يغفر لنا ولك ، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
ومهما حصل للإنسان من قطيعة ، ومهما حصل له من هجر ، ومهما أساء إليه إخوانه وأقاربه وجيرانه ، فإنه ينبغي له أن يتحمل الأذى ، ويبتغي أجر ذلك من الله سبحانه وتعالى .
المسلم ـ أيها الأخوة ـ يراقب الله في أفعاله وأقواله ، ولا يكون ضحية لنفسه الأمارة بالسوء وشيطانه ، في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة أن رجلا قال : يا رسول الله ؛ إن لي قرابة ؛ أصلهم ويقطعوني ، وأحسن إليهم ويسيئون إلي ، وأحلم عنهم ويجهلون علي . فقال : (( لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك )) .
ومع احتمال الأذى ـ أخوتي في الله ـ ينبغي للمسلم ، أن يدفع بالتي هي أحسن ، فيقابل الإساءة ، والكلمة الجارحة ، والحركة المحرجة ، بالتي هي أحسن : أي بالخصلة وبالكلمة وبالطريقة والمعاملة الحسنة ، يقول تبارك وتعالى : وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ .
ومع احتمال الأذى ، والدفع بالتي هي أحسن ،على المسلم أن لا يغضب ، لأن الغضب عواقبه وخيمة ، وله ثمار مرة ، ولهذا لما جاء رجل إلى النبي وقال : أوصني ! قال له : (( لا تغضب )) فردد مرارا ، قال له : (( لا تغضب )) ، يقول أحد الصحابة رضي الله عنهم أجمعين : ففكرت حين قال الرسول ما قال ، فإذا الغضب يجمع الشر كله .
اسأل الله لي ولكم علما نافعا وعملا خالصا وسلامة دائمة ، اللهم أيقضنا من رقدة الغافلين ، وأغثنا بالإيمان واليقين واجعلنا من عبادك الصالحين .
اللهم إنا نسألك نصر الإسلام وعز المسلمين ، اللهم احمي حوزة الدين ، اللهم واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين . اللهم آمنا في أوطاننا واستعمل علينا خيارنا واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار ، اللهم أحينا سعداء وتوفنا شهداء واحشرنا في زمرة الأتقياء برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، الله أغثنا ، الله أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريعا سحا غدقا مجللا عاجلا غي آجل ، اللهم اسق بلادك وعبادك ، اللهم ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم لا تجعلنا من القانطين ، ولا من الآيسين ، يا أرحم الراحمين .
اللهم رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ .
عباد الله :
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ . فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .